كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ويسميهم: {الذين نافقوا}.. وقد كشفهم الله في هذه الموقعة وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان}.. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالًا سيكون بين المسلمين والمشركين.
فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر وإنما هم: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}.. فقد كان في قلوبهم النفاق الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها. فالذي كان برأس النفاق- عبد الله بن أبي- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه يوم أحد. والذي كان به قبل هذا أن قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم وجعل الرياسة لدين الله ولحامل هذا الدين!.. فهذا الذي كان في قلوبهم والذي جعلهم يرجعون يوم أحد والمشركون على أبواب المدينة وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام وهو يقول لهم: {تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالًا! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية: {والله أعلم بما يكتمون}..
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا}..
فهم لم يكتفوا بالتخلف- والمعركة على الأبواب- وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس وبخاصة أن عبد الله بن أبي كان ما يزال سيدًا في قومه ولم يكشف لهم نفاقه بعد ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة وهم يقولون: {لو أطاعونا ما قتلوا}..
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ويجعلون من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه مغرمًا ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ولحتمية الأجل ولحقيقة الموت والحياة وتعلقهما بقدر الله وحده.. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع الذي يرد كيدهم من ناحية ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: {قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد والشجاع والجبان. ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم فيرد كيدهم اللئيم ويقر الحق في نصابه ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة تأخيره ذكر هذا الحادث- حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة- وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق..
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية.. فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها.
ثم يشير هذه الإشارة إلى {الذين نافقوا}. وفعلتهم وتصرفهم بعدها وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ووزن الأعمال والأشخاص ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص- بعد ذلك- فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح بذلك الحس الإيماني الصحيح..
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيمًا في قومه- كما أسلفنا- وقد ورم أنفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه- لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة- وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم وبلبلة في الأفكار كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر.. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: {الذين نافقوا} والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: {ألم تر إلى الذين نافقوا} وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ليبقى نكره في: {الذين نافقوا} كما يستحق من يفعل فعلته وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق..
وبعد أن تستريح القلوب وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون وعلى حقيقة قدر الله في الأمور وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير.. ثم على حقيقة الأجل المكتوب والموت المقدور الذي لا يؤجله قعود ولا يقدمه خروج ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير..
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى.. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها.. حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتًا بل أحياء. أحياء عند ربهم يرزقون؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها فهم متأثرون بها مؤثرون فيها والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة.
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح وخرجت تتعقب قريشًا بعد ذهابها خوفًا من كرة قريش على المدينة ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش متوكلة على الله وحده محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}..
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: {لو أطاعونا ما قتلوا} فقال يتحداهم: {قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}..
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله- وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم {يرزقون} عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل- بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها وهي موصولة لا تنقطع؛ فليس الموت خاتمة المطاف؛ بل ليس حاجزًا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق!
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين واستقبالهم للحياة والموت وتصورهم لما هنا وما هناك.
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون}..
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله وفارقوا هذه الحياة وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.
ونص كذلك في إثبات أنهم {أحياء}. {عند ربهم}. ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات وصف ما لهم من خصائص الحياة. فهم {يرزقون}..
ومع أننا نحن- في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة وما بينهما من انفصال والتئام. وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها؛ وأننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها. لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
فهؤلاء ناس منا يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: {قتلوا في سبيل الله}؛ وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة؛ واتصلت أرواحهم بالله فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك فإن الله سبحانه يخبرنا في الخبر الصادق أنهم ليسوا أمواتًا. وينهانا أن نحسبهم كذلك ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده وأنهم يرزقون. فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.. ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى: {فرحين بما آتاهم الله من فضله}..
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح؛ لأنهم يدركون أنه {من فضله} عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم؛ وهم مستبشرون لهم؛ لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}.
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم {الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم {أحياء} كذلك معهم مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: {أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.. وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم {عند ربهم} ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين. وأنه لا يضيع أجر المؤمنين..
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء- الذين قتلوا في سبيل الله؟- وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس عن هذه الرحلة إلى جوار الله مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة!
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت- متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم.
وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة ومن حياة إلى حياة!
ووفقًا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة في- سبيل الله- وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة. فيرجع إليها هناك.
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن {المؤمنين} الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم فيعين من هم؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}..
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة. وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم مثخنون بالجراح!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم- ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال!- فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله- كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك- فاستجابوا بهذا لله والرسول {من بعد ما أصابهم القرح} ونزل بهم الضر وأثخنتهم الجراح.
لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم. وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى وتومئ إلى حقائق كبرى نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة وآلام البرح والقرح؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش وتعقبها كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء وليست نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء إنما هي واحدة وتمضي ولهم الكرة عليهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته.
فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس؛ يشعر قريشًا أنها لم تنل من المسلمين منالًا. وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها..
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة.
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها. ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها وليس لهم من غاية في حياتهم سواها. عقيدة يعيشون لها وحدها فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ولا يقدمونها فداها..
لقد كان هذا أمرًا جديدًا في هذه الأرض في ذلك الحين. ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها- بعد أن يشعر المؤمنون- بقيام هذا الأمر الجديد وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة.
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم- كما أبلغهم رسل أبي سفيان- وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لابد أن يفعلوا-: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}..